أولًا، أتحدث هنا باسمي فقط، كوني ابن مدينة دير الزور، ولا أدّعي معرفة جميع التفاصيل، كما لا يمكنني ذكر كل الأحداث بالتفصيل، فهذا أمر يحتاج إلى سنوات من البحث والتحقيق. كذلك، لا أستطيع ذكر أسماء الشهداء، فهم بعشرات الآلاف، وسيكون من الظلم ذكر بعضهم دون الآخرين، رغم أن لبعض الأسماء مكانة بارزة في تنسيقيات الثورة، أو ممن عُذّبوا في السجون، أو من أبطال الجيش الحر. لذا، فإن هذا المقال يهدف فقط إلى سرد الأحداث الرئيسية في مدينة دير الزور دون الخوض في التفاصيل.
قبل كل شيء، لا أريد أن يُفهم كلامي على أن دير الزور عانت أكثر من غيرها من المدن السورية، وعلينا أن ندرك أن الألم لم يكن حكراً على أحد، وأن الظلم لم يفرق بين شمال وجنوب أو شرق وغرب، بل كان جاثماً على صدر الوطن بأكمله، فكل مدينة سورية قاومت بطريقتها، وكل شارع دفع ثمن الحرية، وكل عائلة قدمت ضريبة الحلم بوطن أفضل. لذلك، يجب علينا نحن السوريين أن نتجنب الخطاب الذي يصنّف المدن أو يمنح إحداها لقب “عاصمة الثورة” أو يدّعي أن مدينة ما “حررت البلاد”، ولا نريد أن نُقسم الوطن إلى مناضلين ومهمشين. لأن مثل هذه العبارات لا تؤدي إلا إلى مزيد من الانقسام بيننا. الحقيقة أن سوريا بأكملها كانت مُهمَلة ومنسية في ظل النظام السابق، ولا نريد أن نعيد أخطاء الماضي بخلق “قرداحة جديدة رغم ان هي أيضا مدينة مهملة” أو منح الأفضلية لمدينة على حساب أخرى. علينا أن نتحدث بلغة الوطن الواحد، بلغة تجمع ولا تفرق، تحتضن الجميع ولا تستثني أحداً. سوريا ليست مدينة أو قرية أو طائفة، وليست تاريخاً يختزل في مكان واحد أو فئة معينة، بل هي حكايات من التضحية والصمود، من دمشق إلى دير الزور، ومن درعا إلى حلب، ومن الحسكة إلى السويداء الى الساحل السوري الجميل. كل حجر فيها شهد معاناة أبنائها، وكل شارع احتضن دموع الأمهات، وآمال الشباب، وأحلام الأطفال الذين لم يعرفوا سوى الحرب والموت والتهجير.
ولكن اسمحوا لي أن أرفع لكم هذه الشكوى من ابن مدينة دير الزور، إن قبلتم سماعها


لهناك أناسًا في سورية حتى اليوم لا يعرفون شيئًا عن دير الزور.
إذا سألتَ أحدًا في دمشق عن دير الزور، سيقول لك إنها “محررة”، ولكن لو أعطيته الخريطة، فلن يستطيع الإشارة إليها بالتحديد! هذا ليس مجرد كلام، بل عن تجربة شخصية وهو السبب الاول لكتابة كل هذا المقال . حتى أصدقاؤنا من مدن أخرى يتحدثون وكأن مشكلة “قسد” غير موجودة. وحتى أبناء المناطق الغربية من سوريا ليسوا مهتمين بهذا الموضوع، بل يركزون على الكهرباء والمعيشة اليومية والامان، وهو أمر مفهوم في ظل الظروف الحالية.

والأمر أصبح أكثر وضحا بعد 8 ديسمبر كانون الأول ونجاح الثورة السورية في اسقاط النظام البعث وآل الاسد، حيث ظهر جهل كبير بوضع دير الزور. وتكاد تكون غائبة عن حسابات الكثير من السوريين، الذين يخلطون بينها وبين البادية، حتى إن بعضهم كان يسأل أبناء دير الزور إن كانوا يعيشون في خيام! والمفارقة أن مثل هذه الأسئلة لم تأتِ فقط من عامة الناس، بل حتى من زملائهم في الجامعات من مدن أخرى، وهم من يُفترض أنهم يمثلون الطبقة المثقفة في البلاد.
التهميش المتعمد وصناعة الفجوات بين المدن
على مدار خمسين عاماً، سعى النظام السابق إلى تفتيت الروابط بين المدن السورية، حتى بات ابن درعا لا يعرف شيئاً عن ابن حلب، وابن السويداء بالكاد يعرف جاره الدمشقي. أما الكردي، فقد عاش بنصف هوية، غير قادر على التحدث بحرية عن ثقافته بين أصدقائه العرب، وكأن الحديث عن هويته محرّم. وبسبب مخاوفهم الوجودية، فضّل الدروز الانغلاق على نفسهم، مما حال دون أن يتعرف باقي السوريين على الجمال الغني لثقافة أهل جبل العرب. أما السريان والآشوريون، فقد بدوا وكأنهم من عالم آخر، رغم أنهم من أقدم سكان المنطقة. فكثير من السوريين لا يعرفون عنهم شيئاً، بل إن معظمهم يجهلون حتى أن الأشهر المستخدمة في تقويم بلاد الشام تحمل أسماء سريانية. وابن الساحل لا يعرف عن ابن حوران إلا القليل، ربما فقط أن وجبته المفضلة غنية باللبن والبرغل ويغطيها اللحم والسمن) المليحي (، لكنه قد لا يعلم شيئاً عن بصرى ومدرجها الروماني، أو عن العمق الحضاري لحوران التي كانت مخزن روما الذي يطعم العالم بالقمح.و بالكاد يعرف ابناء سورية شيئاً عن دير الزور، حتى إن البعض يخلط بينها وبين الحسكة والرقة، فيعتقدون أن دير الزور جزء من منطقة الجزيرة، دون إدراك أن دير الزور تنتمي إلى المنطقة الشرقية، بينما الحسكة جزء من منطقة الجزيرة، والرقة هي منطقة الطبقة، مما يعكس مدى تأثير النظام في خلق هذه الفجوات المعرفية. وحتى في المسلسلات، عزّز الإعلام هذه القطيعة، حيث صُوِّر أهل المنطقة الشرقية على أنهم مجرد بدو، مما رسّخ الصورة النمطية الخاطئة في أذهان الكثيرين. بل إن العقوبة التي تُفرض على الموظفين في بعض الأعمال الدرامية كانت تُصوَّر على أنها النفي إلى المنطقة الشرقية، وكأن دير الزور منفى سوريا!
التقصير الإعلامي من أبناء المنطقة الشرقية وأسبابه
هناك تقصير إعلامي واضح في تسليط الضوء على معاناة دير الزور، لكن هذا يعود لطبيعة اهل المنطقة وتقاليدها. فقد تربّى أهل المنطقة على مبدأ “الشكوى لغير الله مذلة”، مما جعلهم يتحملون الصعاب بصمت كما أن أبناء دير الزور معروفون بعصاميتهم ونفورهم من الظهور الإعلامي. إضافة إلى ذلك فإن قيم الفزعة والنخوة تدفعهم لمساعدة غيرهم حتى في أصعب ظروفهم، مما جعل معاناتهم غير مرئية للكثيرين لكن الواقع مختلف فالمنطقة تعاني بشدة، وربما حان الوقت لكسر حاجز الصمت، ليس طلبًا للشفقة، بل للإنصاف والعدالة.
قبل الثورة
مدينة دير الزور تعرضت للتهميش الاقتصادي والتنموي الكبير من قبل نظام حافظ الأسد ومن بعده بشار الأسد قبل اندلاع الثورة السورية عام 2011. هذا التهميش كان جزءًا من سياسة عامة اتبعتها النظام تجاه المناطق الشرقية والجزيرة (دير الزور، الرقة، الحسكة)، رغم غنى هذه المناطق بالثروات الطبيعية مثل النفط والغاز والأراضي الزراعية الخصبة والثروة الحيوانية الكبيرة في المنطقة.
الإهمال الاقتصادي والتنموي:
تُعتبر مناطق شرق سوريا، وعلى رأسها محافظة دير الزور الخزان الاقتصادي الأكبر للبلاد، لما تحتويه من ثروات باطنية وزراعية وحيوانية. ورغم غنى محافظة دير الزور بالنفط والغاز، حيث تضم 9 من أصل 11 حقل نفط في سوريا، إضافة إلى معامل لضغط وتعبئة الغاز مثل معمل كونيكو، ومحطات ضخ وتخزين النفط الرئيسية، إلا أن عائدات هذه الموارد كانت تصب في خزينة آل الأسد دون أي استثمار حقيقي في تنمية المحافظة. كما أدى استخراج النفط العشوائي إلى هبوط منسوب المياه الجوفية وتلوث مياه نهر الفرات، مما أثر بشكل مباشر على الزراعة. إضافة إلى ذلك، ساهمت الانبعاثات الغازية الناتجة عن عمليات الاستخراج والتكرير في زيادة معدلات التلوث البيئي، حيث لا يبعد بعضها أكثر من 6 كيلومترات عن المناطق السكنية، مما أسفر عن تأثيرات بيئية وصحية سلبية على سكان المدينة.
وتشتهر دير الزور، إلى جانب عموم المنطقة الشرقية، بأنها “السلة الغذائية لسوريا”، حيث يشكل المزارعون نحو 43% من عدد السكان. وتساهم الزراعة في دير الزور بنسبة كبيرة في الإنتاج الزراعي السوري، وتتمثل في:
- حوالي 30-35 % من إنتاج القمح السوري، مما جعلها واحدة من أكبر المساهمين في الأمن الغذائي للبلاد.
- حوالي 40% من إنتاج القطن، حيث كانت من أكبر المحافظات السورية إنتاجًا.
- أكثر من 25% من إجمالي الإنتاج السوري من الخضار
- أكثر من 25% من أعداد الأغنام في سوريا، بالإضافة إلى نسبة كبيرة جدا من تربية الأبقار والإبل في سوريا.
ورغم هذه الثروات الكبيرة، فإن غياب الخطط التنموية السليمة أدى إلى تدهور البنية التحتية بشكل كبير. كان الري التقليدي وإسراف المياه في ري المحاصيل من بين الأسباب الرئيسية لهذه الأزمة، بينما عجز التخطيط الحكومي عن توفير حلول جذرية لهذه المشكلة المتفاقمة.
كما تدهورت أوضاع الطرق والمواصلات والخدمات العامة في دير الزور، في ظل غياب الاستثمارات في القطاعات الإنتاجية النفطية والزراعية. وعانى الفلاحون من الإهمال، وانتشرت عمليات حفر الآبار العشوائية دون أي تخطيط مدروس تراعي طبيعة التربة واستدامتها. ولم تُتخذ إجراءات جدية لمكافحة التصحر، رغم أن الزراعة تُعد القطاع الأهم في المنطقة.
أما القطاع الصناعي، فقد تم إهماله بشكل كامل. لم تنل دير الزور أي مشاريع صناعية أو تنموية صغيرة او كبيرة، على عكس بعض المدن السورية الأخرى. وعانت المحافظة من إهمال شديد في مجالات التنمية والخدمات، حيث لم تُنشأ أي مصافٍ محلية للنفط، بل كان يتم نقل النفط إلى مصافي حمص وبانياس لتكريره، مما زاد من مركزية الموارد لصالح النظام على حساب أبناء المحافظة. كما لم تُخصص أي مشاريع لدعم الصناعات النفطية أو خلق فرص عمل لأبناء المنطقة، مما أدى إلى ارتفاع معدلات البطالة والفقر.

على الرغم من الإمكانيات الطبيعية الهائلة التي تمتلكها دير الزور، والتي كانت تؤهلها لتكون واحدة من أغنى المحافظات في سوريا والمنطقة وأن تتحول إلى مركز اقتصادي مزدهر، الا إن الإهمال والتهميش وسوء الإدارة حرمها من تحقيق هذه الإمكانيات.
الإهمال الصحي والخدمي:
إن نقص المستشفيات والمراكز الصحية في دير الزور، التي كانت قليلة ومهملة مقارنة بالاحتياجات الفعلية للمدينة وسكانها. فمن غير المعقول أن محافظة بحجم دير الزور وسكانها الذين يتجاوزون 1.6 مليون نسمة، تفتقر إلى الخدمات والمنشئات الصحية الكبيرة، مما يضطرهم إلى السفر إلى مدن أخرى لتلقي العلاج، وهو ما يزيد من أعبائهم المالية ويُعرّض حياتهم للخطر ويزيد من المشاكل الصحية بسبب طول المسافة. كما أن هجرة الأطباء الى مدن اخر او الى الخارج بسبب ضعف الإمكانيات والاهتمام يُعد خسارة فادحة للمحافظة، ويحرم سكانها من الكفاءات الطبية التي هم في أمس الحاجة إليها.
كما افتقرت المدينة لمحطات توليد الكهرباء، مما جعلها تعتمد على التيار القادم من سد تشرين، الذي يغذي العديد من المدن السورية، ما تسبب في انقطاع الكهرباء بشكل شبه يومي.
ومن مفارقة عجيبة ومؤلمة. فمن غير المنطقي أن يعاني سكان المدينة من شحّ المياه النظيفة، رغم مرور نهر الفرات العظيم عبرها، يعود ذلك إلى عدة عوامل، منها سوء الإدارة وسوء التخطيط، وعدم الاستثمار في البنية التحتية اللازمة لتنقية وتوزيع المياه.
السيطرة الأمنية والتضييق السياسي:
فرض النظام هيمنة أمنية مشددة على مدينة دير الزور، حيث قامت الأجهزة الأمنية بمراقبة كافة الأنشطة، ونجاح النظام خلال سنوات حكمه التي تجاوزت الخمس عقود، في تخويفهم بقبضته الأمنية كما هو الحال في باقي المدن السورية. وعانت المدينة من تهميش واضح على المستوى المدني، إذ اعتمد النظام سياسة التمييز العشائري، رغم أن العشائر تُشكّل النسيج الأساسي لأهالي المنطقة. أدى ذلك إلى تعميق الفجوة بين سكان المدينة وسكان القرى المحيطة، حيث كان الولاء والانتماء العشائري أكثر حضورًا في القرى مقارنة بالمدينة. كما استغل النظام وحزب البعث هذا التوزيع العشائري في تكريس سيطرته، وعمل على تشتيت كلمتهم وقوتهم بتقريب وشراء ذمم بعض شيوخ ووجهاء العشائر ومستخدمًا الجبهة الوطنية التقدمية كأداة لاختيار الشخصيات التي تسعى للوصول إلى المناصب والمراكز الرسمية، دون أن يكون لديهم أي نية حقيقية لمناقشة أو معالجة مشاكل المدينة، مما ساهم في استمرار التهميش والإهمال.
إفقار السكان وإجبارهم على الهجرة:
أسهمت السياسات الاقتصادية الفاشلة في دفع عدد كبير من أبناء دير الزور إلى الهجرة إلى الخارج بحثًا عن فرص عمل. كما أن عدم تقديم الدعم الكافي للمزارعين أسهم في إضعاف القطاع الزراعي الذي كان يُعد المصدر الرئيسي لدخل الافراد في المنطقة، فضلًا عن تفضيل أبناء المحافظات الأخرى في الحصول على فرص عمل في شركات النفط وغيرها من المراكز الوظيفية الإدارية.
بداية الصراع 2011-2013 ودور دير الزور في الثورة السورية
مع انطلاق الثورة عام 2011، انتهت القطيعة المفروضة من الاسد، وأصبحت المحافظات تهتف لبعضها البعض، وكان لأبناء دير الزور اعتزاز كبير بذكر اسم مدينتهم بعد تجاهل طويل
وانطلقت شرارة الثورة في دير الزور يوم 25 آذار مارس 2011 من جامع عثمان بن عفان فما أن فرغ المصلون من أداء صلاة الجمعة في ذلك اليوم حتى انطلق عدد قليل من الشباب بالتكبير وهتافات الحرية والسلمية ونصرة درعا، وانضم آخرون للمظاهرة ولكن قام الشبيحة وعناصر الأمن وأذناب النظام بي فضها بالقوة واعتقال المشاركين فيها. ورغم قمع من قوات الأمن تصاعدت الاحتجاجات، وازداد اعداد المتظاهرين فتواجهها النظام بإطلاق سراح أصحاب السوابق لقمع المتظاهرين الذي اخرجهم بحجة العفو العام.
في 22 نيسان ابريل 2011، خلال “الجمعة العظيمة”، خرجت مظاهرة كبرى كسرت الطوق الأمني وتوجهت المظاهرة حاولي 5000 متظاهر إلى ساحة الحرية (ساحة الباسل سابقا) وتمكن المتظاهرون من نزع وحرق تمثال باسل الأسد على حصانه وردد المتظاهرون هتافات إسقاط النظام إضافة إلى الهتاف “يا جامع ويا جبان هاي الدير مو لبنان”، في رسالة الى للعميد جامع جامع رئيس فرع الأمن العسكري بدير الزور. تسارعت الأحداث في دير الزور كباقي المحافظات الثائرة واتسعت دائرة المتظاهرين مع سقوط وتشييع أول شهيد برصاص الأمن بمدينة دير الزور.
وخرج أبناء مدينة دير الزور بمئات الآلاف وذلك في جمعة “أحفاد خالد بن الوليد” بتاريخ 22 تموز يوليو 2011، تضامنا مع أهالي مدينة حمص التي كانت تتعرض لعملية عسكرية عنيفة قبل أسبوع، وبلغ عدد المتظاهرين أكثر من 350 ألفاً تجمعوا في ساحة الحرية بدير الزور عقب صلاة الجمعة. مع نهاية الشهر، وبهذا خرجت دير الزور عن سيطرة النظام، ما دفعه إلى إرسال الجيش والسلاح الثقيل لاستعادة السيطرة تبعها خروج عدد من الشبيحة اسد على التلفزيون السوري يطالبون بدخول الجيش الى المدينة.
الاجتياح اول وتحرير البوكمال
في 28 يوليو تموز، بدأت قوات الأمن اقتحام “حي الحويقة”، حيث أطلقت النار على الأهالي، ما أسفر عن سقوط 6 قتلى. ردًا على ذلك، انشق عدد كبير من الجنود عن الجيش النظام، واندلعت اشتباكات عنيفة بين المنشقين وقوات الأمن العسكري. في 30 يوليو تموز، قُصف حي الجورة بالدبابات، ما تسبب في وقوع إصابات بين المدنيين. وفي 31 يوليو، أطلق الجيش قصفًا مكثفًا على المدينة، ما أدى إلى مقتل 19 شخصًا وجرح 50 آخرين، وأدى ذلك إلى موجة نزوح من السكان.
في 7 أغسطس اب وحرّك النظام جيشه لاجتياح حماة ودير الزور الثائرتين واجتاح الجيش المدينة بعد قصف عنيف استمر أيامًا، وأدى الاجتياح إلى سقوط أكثر من 65 قتيلًا في يوم واحد، خاصة في حيي الحويقة والجورة. ورغم سيطرة الجيش على المدينة، استمرت المظاهرات والاشتباكات المتفرقة بين المنشقين والقوات النظامية، وظلَّ القصف مستمرًا حتى 18 أغسطس، حيث أعلن النظام رسميًا انسحابه، لكن حملات الاعتقالات استمرت. وخرجت المظاهرات في المدن اخرى تضامنًا مع دير وحماة، لكن بدرجات مختلفة.
وفي تلك الأثناء، كان أبناء القرى والمدن الأخرى في المنطقة الشرقية يشاركون باستمرار في المظاهرات، حيث كان الكثير منهم يقطع مسافات طويلة للوصول إلى دير الزور والانضمام إلى الاحتجاجات، في تجسيد واضح لوحدة الحراك الثوري بين مختلف مناطق المحافظة. وبعد أشهر من مشاركة مدينة البوكمال، التابعة لمحافظة دير الزور، في المظاهرات ضد النظام، تمكن الثوار من تحقيق إنجاز استثنائي. فبعد انشقاق عدد من عناصر الجيش النظام وانضمامهم إلى أبناء المدينة وجيش الحر، قاموا بمحاصرة فروع الأمن والسيطرة عليها، ليُتوّج ذلك بالسيطرة على مطار الحمدان العسكري في 17 تشرين الثاني 2011، ما جعل البوكمال أول مدينة سورية تتحرر بالكامل من سيطرة النظام. وسرعان ما تبعتها معظم مدن وبلدات الريف الشرقي للمحافظة، لترسم ملامح مرحلة جديدة في مسار الثورة.
تصاعد المواجهات وابداء الحصار 2012
بعد الانسحاب للجيش النظام، ومع تحوّل الثورة إلى الكفاح المسلح وتشكيل الرسمي للجيش الحر بداءات توسعت عمليات الجيش الحر في دير الزور، فشنَّ هجمات على حواجز الجيش النظامي، وتمكن من قتل عدد من الجنود، بينما استمر القمع الأمني عبر الاعتقالات والاغتيالات. في بداية 2012، هاجم مقاتلو الجيش الحر حاجزًا عسكريًا في “المريعية”، ما أدى إلى مقتل ضابط وجندي وإصابة آخرين، تصاعدت المواجهات أكثر في فبراير شباط 2012، عندما اندلعت اشتباكات عنيفة في حي الجورة، ثم استقدمت قوات النظام تعزيزات مدرعة، بينما حصل الجيش الحر على أسلحة التي سيطر عليه من النظام او من الدعم من العشائر المنطقة، ما ساعده على تعزيز نفوذه في المحافظة. وسيطرت قوات المعارضة على عدد من المناطق في المدينة، أثبت ثوار دير الزور قدرتهم على تحقيق إنجازات نوعية، حيث سجلوا سابقة عسكرية بإسقاط أول طائرة حربية للنظام، وهي من طراز ميغ، في آب 2012، وذلك باستخدام رشاش من عيار 14.5 ملم في مدينة موحسن. وتمكنوا من أسر قائدها، وهو برتبة عقيد، لتتبعها خلال الأشهر اللاحقة خمس طائرات أخرى، في دلالة واضحة على بسالة الثوار وإرادتهم في مواجهة القوة الجوية للنظام رغم الإمكانيات المحدودة. ثم تجددت الاشتباكات في 25 نوفمبر تشرين الثاني، حيث قتل الجيش الحر 10 جنود وأصاب العشرات. ولكن في ذلك الوقت قد بدأ داعش في التسلل إلى المنطقة وتأسيس وجوده هناك.
2013 مأساة تدمير الجسر والتضحيات التي لم تُذكر وصعود داعش
مع تصاعد المواجهات، ظهرت الفجوات مجددًا المنطقة الشرقية وباقي المدن فافي 2013، عندما احتاجت القصير للمؤازرة، قطعت أرتال ثوار دير الزور مئات الكيلومترات لنجدتها عبر جيش العسرة، الذي تكوّن خصيصًا لهذه المعركة، وشارك في الدفاع عن البلدة، قبل أن يتمكن النظام وحزب الله من احتلالها وبسبب هذا امر أصبح هناك ضعف في القوة العسكرية والعدد الثوار في دير الزور ولكن لم يُذكر هذا الجهد في أي مكان، وكأن تاريخ الثورة كان محصورًا فقط في ثوار حلب وحمص وإدلب.
الحزن العميق على تدمير الجسر
في صباح يوم الثاني من أيار/مايو 2013، كانت مدفعية النظام على موعد مع جريمة أخرى حين استهدفت الدعامة الثالثة للجسر المعلق بشكل مباشر، لتترك المدينة في صدمة لا تمحى. لم يكن القصف مجرد اعتداء على هيكلٍ من الحديد والإسمنت، بل كان ضربة قاسية لذاكرة المدينة، إذ تسبّب في تدمير الأسلاك الحاملة لبدن الجسر، مما أدى إلى انهياره بالكامل، فيما بقيت الدعامات الحاملة وحدها تقف كشاهدٍ صامت على الخراب. كان وقع الخبر كالصاعقة على أهالي المدينة، فقد كان الجسر المعلق أكثر من مجرد مَعْلَمٍ معماري؛ كان رمزًا للهوية، وجسرًا بين الأجيال، ومصدرًا لذكريات لا تمحى. لم يكن سقوطه مجرد خسارة مادية، بل جرحًا عميقًا في قلب المدينة وأهلها، جرحًا لا يمكن لمرور الزمن أن يداويه.
في 2014 خاض أبناء دير الزور أشرس معاركهم ضد داعش، لكن للأسف، مع توقف ثوار الشمال عن قتال التنظيم بعد طرده من مناطقهم وبينما واصل ثوار دير الزور قتال داعش رغم قطع خطوط الإمداد عنهم. لاحقًا، ليتحول التنظيم بكل ثقله إلى دير الزور، بينما تخلى عن مقاتلة الثوار في الشمال، ليصبح ثقل المعركة بالكامل على أبناء دير وفي معركة مركدة جنوبي الحسكة وهي أكبر معارك ثور دير الزور مع داعش ورفضت الفصائل في الشمال مساعدة ثوار دير الزور، بل برر بعض قادتهم ذلك بالقول: “هذه معركة النفط، وليست معركتنا”. وهذا ما أكده أحد أعضاء المكتب السياسي للجيش المجاهدين في حلب، وهو من أبناء دير الزور مما أدى إلى طرد الثور من المحافظة بحلول يوليو تموز، ويبقى فقط النظام محاصرًا داخل جيب صغير في مدينة دير الزور، يشمل الأحياء الغربية والمطار العسكري. وفرض داعش حصارًا شديدًا على المدينة، محاولًا اقتحام القاعدة الجوية، لكنه واجه مقاومة شرسة من القوات نظام. في الوقت نفسه، أدى الحصار إلى نقص حاد في الإمدادات الغذائية والطبية، مما تسبب في أزمة إنسانية خانقة بين السكان المدنيين وموجة نزوح جماعي من السكان.
تصعيد المعارك 2015-2016
على مدار عامي 2015 و2016، استمر تنظيم داعش في شن هجمات متكررة على مواقع النظام، بما في ذلك القاعدة الجوية وأحياء المدينة. وفي يناير 2016، تمكن التنظيم من السيطرة على أحياء استراتيجية مثل البغيلية وعياش، وارتكب مجازر راح ضحيتها مئات المدنيين. كما أدى القصف العشوائي الذي نفذه داعش إلى مقتل العشرات، في حين عانى السكان من الجوع نتيجة انقطاع الكهرباء والمياه، مما دفع الأمم المتحدة إلى تنفيذ عمليات إسقاط جوي للمساعدات الإنسانية.
في سبتمبر 2016، استهدف التحالف الدولي مواقع للنظام بضربات جوية عن طريق “الخطأ”، مما تسبب في إضعاف قواته، لا سيما في جبل الثردة المطل على المدينة، الأمر الذي زاد من خطورة الوضع بالنسبة للنظام ومكّن داعش من التقدم والسيطرة على مواقع جديدة. وبسبب هذه الأحداث، شهدت دير الزور والقرى المحيطة بها أكبر موجة نزوح، نتيجة الدمار الكبير والحصار المفروض.
وبسبب موقعها الجغرافي القريب نسبياً من معبر تل أبيض الحدودي، أصبحت ولاية أورفا التركية وجهة رئيسية لأبناء محافظة دير الزور في موجات نزوحهم المتلاحقة، هرباً من أهوال الحرب التي شنتها قوات الأسد، ثم من الممارسات الإجرامية لتنظيم داعش. وتقدّر منظمات الإغاثة عدد اللاجئين السوريين في مدن ومخيمات ولاية أورفا بنحو 400 ألف لاجئ، منهم أكثر من 150 ألفاً من دير الزور.
النظام الأسد يشارك في حصار المدنيين
يُظهر الحصار الذي فرضه تنظيم داعش على دير الزور بين عامي 2014 و2017 مدى المعاناة التي واجهها السكان، ليس فقط بسبب التنظيم، بل أيضًا بسبب استغلال بعض مسؤولي النظام السوري للأزمة لتحقيق مكاسب مالية. في مارس 2015، أصدر اللواء محمد خضور، رئيس اللجنة الأمنية والعسكرية في المنطقة الشرقية، قرارًا بمنع خروج الأهالي من مناطق سيطرة النظام، خوفًا من خلوها من السكان. ومع تزايد معاناة المدنيين، وجد بعض مسؤولي النظام في الحصار فرصة لجني الأرباح. كان رئيس فرع أمن الدولة، المعروف بدعّاس علي، يحتكر إنتاج وبيع الوقود من بئر الهبّاش، الذي أصبح يُعرف باسم “بئر دعّاس” نسبةً إليه. أما فرع الأمن العسكري واللواء خضور، فقد فرضوا مبالغ مالية ضخمة مقابل منح الموافقات للخروج برًا من المدينة، في حين استغلت المخابرات الجوية حركة الطيران لتحقيق مكاسب إضافية. إذ كانت طائرة الشحن العسكرية (اليوشن) تصل يوميًا إلى مطار دير الزور العسكري محمّلة بالجنود والذخيرة، وفي فترة الحصار استخدمها بعض التجار المتعاونين مع النظام لنقل المواد الغذائية، وبيعها بأسعار باهظة، حيث كان يُدفع للضباط ما يصل إلى 400 ألف ليرة سورية لكل طن من البضائع المنقولة.
كذلك، اضطر المدنيون الراغبون في مغادرة المدينة جوًا إلى دفع مبالغ تراوحت بين 25 و150 ألف ليرة سورية للشخص الواحد. ومع توقف طائرة اليوشن عن الهبوط بسبب ضربات داعش على مدرجات المطار بشكل يوم أدى الى ارتفعت أسعار المواد الغذائية بشكل غير مسبوق مما زاد من معاناة السكان المحاصرين.
خروج داعش ودخول قسد والنكبة النزوح المستمر
في أيلول 2017، تمكنت قوات النظام السوري، بدعم من حلفائها الروس والإيرانيين، من كسر الحصار الذي فرضه تنظيم داعش على جيب سيطرة النظام في مدينة دير الزور. ثم أكملت سيطرتها على المدينة وعلى الريف في الجانب الأيمن من نهر الفرات، إضافة إلى السيطرة على شريط صغير في الجانب الأيسر من النهر. وفي الشهر نفسه، أطلقت قسد عملية عسكرية منفصلة ضد داعش، أسمتها *عاصفة الجزيرة*، بدعم من التحالف الدولي، وتمكنت خلالها من السيطرة على الريف الشمالي للمحافظة وعلى الشريط الريفي المحاذي لنهر الفرات في جانبه الأيسر. ورغم قدرة تنظيم داعش على شن هجمات مباغتة وعميقة في مناطق سيطرة قسد والنظام، إلا أنه تلقى هزائم كبيرة ألحقت ضررًا هائلًا ببنيته وأدخلته في مرحلة جديدة، حيث بدأ بالانحسار مع مطلع 2018، حتى كاد يخرج تمامًا من ساحة الصراع.
أدت موجات النزوح الواسعة، التي بدأت مع تصاعد الصراع عام 2012 بين الجيش الحر وقوات النظام، إلى تفكك المجتمعات المحلية في دير الزور، وزادت من حدة الانقسامات السياسية بين مؤيدي الثورة والنظام. وجاء صعود تنظيم داعش وسيطرته على المحافظة عام 2014 ليعمّق هذه الانقسامات، حيث دفعت حملاته القمعية موجات نزوح جديدة، بدأت بمقاتلي الجيش الحر والناشطين المدنيين، ثم امتدت إلى السكان الذين فرّوا من بطش التنظيم ونمط الحياة القاسي الذي فرضه. ومع اشتداد المعارك حتى عام 2018، تفاقمت الأزمة الإنسانية، خاصة في المناطق الواقعة على الضفة اليمنى لنهر الفرات، حيث تعرضت لقصف مكثف من قبل قوات النظام وحلفائه، بالتزامن مع عمليات قسد في الضفة اليسرى، مما أدى إلى نزوح عشرات الآلاف من المدنيين. اضطر كثيرون منهم إلى العودة إلى مناطق سيطرة النظام أو قسد، لعدم توفر مخيمات تستقبلهم أو تلقيهم مساعدات إغاثية كافية. في المقابل اقتصر الدعم لأهالي دير الزور على مبادرات أهلية من مغتربي منطقة الشرقية، في ظل غياب دعم رسمي فعال.
بحلول نهاية 2017، كانت تشير التقديرات إلى نزوح أكثر من %75 من سكان المحافظة دير الزور قد توزعوا في عدة مناطق حيث:
400-450 ألفًا لجأوا إلى تركيا، وغالبيتهم معارضون للنظام وداعش والإدارة الذاتية.
100-150 ألفًا نزحوا إلى حلب وإدلب، حيث تتركز الفئات الأشد معارضة للنظام وهم ممن ينتمي اللي الكتائب الجيش المقاتلة
200-250 ألفًا يعيشون في مناطق سيطرة النظام، منهم أقل من 100 ألف في مدينة دير الزور نفسها، والبقية موزعون بين دمشق وحمص وحماة والساحل والحسكة، حيث تغلب الميول المؤيدة للنظام مع وجود معارضون للنظام بشكل مخفي
300-350 ألفًا انتقلوا إلى مناطق سيطرة قسد أو إلى مخيمات النزوح في الحسكة والرقة.
100-150 ألفًا لجأوا إلى أوروبا، وغالبيتهم معارضون للنظام.
100 ألف تقريبًا استقروا في دول الخليج والدول العربية الأخرى.
أدى النزوح في دير الزور إلى تغييرات جذرية في التركيبة السكانية، مما كان له تداعيات كبيرة على المشهد السياسي. فقد تسببت إعادة توزيع السكان في ظهور ولاءات وانتماءات سياسية جديدة، مما أدى إلى زيادة حدة الانقسام بين مختلف المجموعات السكانية داخل المحافظة وخارجها.
عودة الحياة بطيئة 2019
مع تراجع العمليات العسكرية، بدأت الجهود من اهل المدينة لإعادة تأهيل البنية التحتية المدمرة في دير الزور. تم إصلاح بعض الطرق وعادت جزء قليل من الكهرباء والمياه تدريجيًا إلى بعض الأحياء، لكن حجم الدمار الهائل والبنية التحتية المتهالكة جعل عملية الإعمار بطيئة وشبه متوافقة وأيضا بسبب قلة الخدمات وانتشار الألغام التي خلفها داعش وقسد. في الوقت نفسه، برزت توترات بين القوى المسيطرة على شرق سوريا، حيث انقسمت المحافظة بين مناطق خاضعة للنظام والميليشيات التابعة لإيران غرب الفرات، ومناطق تديرها قسد المدعومة من الولايات المتحدة شرق الفرات. أدى ذلك إلى تصاعد التوترات بين الطرفين، خصوصًا مع اندلاع اشتباكات متفرقة حول المعابر النهرية والحدود الإدارية بين الجانبين
2020 – 2024 تعزز النفوذ الإيراني في دير الزور بشكل غير مسبوق، حيث عملت إيران على ترسيخ وجودها العسكري والأمني والاقتصادي والاجتماعي في المحافظة. اتخذ الحرس الثوري الإيراني والمليشيات التابعة له، مواقع استراتيجية في المدينة وريفها، خاصة على الضفة اليمنى لنهر الفرات، مستغلين الفراغ الذي خلفته المعارك السابقة. وأنشأت قواعد ونقاط تمركز رئيسية في البوكمال والميادين، وربطتها بممر بري يمتد من العراق إلى سوريا، ما عزز خطوط الإمداد والتواصل بين طهران ودمشق.
كما كثّفت أنشطتها في نشر التشيّع عبر بناء الحسينيات والمراكز الدينية، وتقديم حوافز مالية ومساعدات غذائية لاستقطاب السكان المحليين، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية المتدهورة.
واستولت الميليشيات التابعة لإيران على تجارة النفط والقمح والمسروقات وانتشار معمل المخدرات وتجارها بشكل كبير، واستخدمت المعابر الحدودية، مثل معبر القائم، لتعزيز تجارتها غير المشروعة، بما في ذلك تهريب السلاح والمخدرات.
ورغم الضربات الجوية التي شنتها إسرائيل والولايات المتحدة ضد مواقع الميليشيات الإيرانية في دير الزور خلال هذه الفترة، فإن النفوذ
الإيراني ظل متماسكًا، بل توسع في بعض المناطق، وسط تراجع نفوذ النظام السوري نفسه لصالح الحرس الثوري وحلفائه.
في سبتمبر 2023، حاولت بعض العشائر ان تثور ضد قسد، وحصلت على مباركة من تركيا، حتى أن وزير الخارجية التركي حقّان فيدان قال: “الاشتباكات في دير الزور ليست سوى البداية “ولكن مع التدخل الأمريكي ومعاون وزير خارجية امريكي، توقفت الثورة ضد قسد بعد لقاء زعماء العشائر بقادة “قسد” والتحالف، حيث تم الاتفاق على “معالجة المظالم المحلية” ومع ذلك، لم يتحقق أي شيء على أرض الواقع. ونتيجة للهزيمة أمام قسد، ألقى عدد كبير من المقاتلين سلاحهم، لتصبح العشائر شبه منزوعة السلاح.
أما فيما يخص الادعاءات وطلبات ان ينقلب ابناء العشائر على اكراد في قسد ٫ فهيا لا تعكس حقيقة الوضع في المنطقة الشرقية والجزيرة، وإن أكثر من 70% من المقاتلين في صفوف قسد هم من العرب، فهذا لم يكن اختيارًا، بل كان نتيجة للتجنيد الإجباري أو شراء بعض الذمم. ومن يحاول الهروب أو الانشقاق يواجه التصفية، حيث تبرر قسد اعتقال أي شخص بتهمة الانتماء للنظام أو داعش أو لجماعة إرهابية، تمامًا كما كان يفعل النظام الأسد، إضافة لدعم الأمريكي يصبح امر شبه مستحيل.

2024 التهميش المستمر بعد انتصار الثورة
رغم انتصار الثورة وهروب بشار الأسد وسقوط البعث، بقي التهميش حاضراً، مما أكد لكثير من أبناء دير الزور أن التهميش الذي كان قبل الثورة لم ينتهِ بعدها
يجهل الكثيرون أن أهل دير الزور هم من حرروا مدينتهم من قسد، وليست هيئة تحرير الشام، التي اكتفت بالوقوف على أطراف المدينة خشية الاصطدام مع التحالف وهو امر مفهوم. وبعد تظاهرات أهل المدينة دير الزور ومقاومتهم، خرجت “قسد” إلى الضفة الشرقية من النهر.
حاليا العزلة القاتلة
تنقسم دير الزور اليوم إلى قسمين يفصلهما نهر الفرات:
الضفة اليمنى (الشامية): تضم المدن الرئيسية مثل دير الزور، الميادين، البوكمال، حيث يعيش 70% من سكان المحافظة
الضفة اليسرى (الجزيرة): تحت سيطرة “قسد”، حيث تقع معظم الثروات النفطية والزراعية
لكن هذه ليست المشكلة الوحيدة، بل إن عزلة دير الزور تزداد بسبب:
سيطرة “قسد” على منطقة الجزيرة أدت إلى عزل دير الزور عن عمقها التجاري والاجتماعي، حيث قامت بتدمير جميع الجسور فوق نهر الفرات لمنع التنقل بين الضفتين الشرقية والغربية. وأصبح الطريق الوحيد من دير الزور إلى المناطق المحررة يمر عبر البادية السورية، التي تنتشر فيها خلايا داعش، مما يجعله غير آمن، كما أدى إغلاق معبر البوكمال مع العراق، بسبب النفوذ الإيراني، إلى زيادة العزلة الاقتصادية للمدينة، على عكس المعابر الأخرى مع دول الجوار مثل الأردن وتركيا. نتيجة لذلك، تبدو دير الزور متروكة في الزاوية الشرقية من البلاد، لا يزورها إلا من يصرّ على ذلك.
أما الخدمات الأساسية، فتعاني المدينة من انقطاع الكهرباء والمياه، حيث لا تعمل إلا في بعض الأحياء لمدة 40 دقيقة يوميًا، إضافة إلى ضعف شديد في الإنترنت بسبب تدمير شبكة الألياف الضوئية وسرقة لخدمات الاتصالات.
بسبب هذه العزلة، خرجت دير الزور وعموم المنطقة الشرقية تقريبا من جدول حسابات السورين حاليا، مما أدى إلى غياب الدعم الإغاثي والخدمي، رغم حجم الدمار الهائل، الذي يصل إلى 80% من مركز المدينة وهو أكبر نسبة دمار في كل محافظات السورية واعلى نسبة نزوح وأيضا لا يوجد قطاع صحي، ولا زراعي، ولا تجاري.
لقد ذاقت هذه المنطقة كل ألوان القهر، من التهميش إلى الحصار، من النزوح إلى الحرب، من الاحتلال إلى التجاهل. أجيال كاملة وُلدت وسط الدمار، لم تعرف من الحياة سوى الصراع من أجل البقاء. عندما ثارت سوريا، ثارت دير الزور بكل ما فيها، وقاتل أبناؤها في كل الجبهات وفي كل المحافظة السورية، ومع ذلك بقيت مدينتهم في زاوية النسيان، حتى كأنها ليست جزءًا من الوطن الذي ضحوا من أجله.
فعند وقوع الزلزال في الشمال السوري عام 2022، انتفضت عشائر المنطقة الشرقية، وخصوصاً دير الزور وما حولها، حيث أطلقت حملات إغاثية واسعة تحت عناوين “فزعة عشائر دير الزور” و”فزعة الفرات” لدعم المنكوبين. وقد تجاوزت مساعداتهم ما قدمته الأمم المتحدة، إذ أرسلوا أكثر من 130 شاحنة محملة بالمساعدات، إلى جانب تبرعات نقدية تجاوزت 250 ألف دولار. وشملت التبرعات 83 شاحنة من دير الزور وحدها، فيما أرسلت منبج 30 شاحنة، وساهمت الرقة بـ 18 شاحنة، في مشهد يعكس روح التضامن والتكافل بين أبناء سوريا. وكان لأبناء دير الزور اعتزاز وفخر كبير بذكر اسم مدينتهم في هذه المبادرة الإنسانية، حيث احتفل الناشطون وأطلقوا هاشتاغ “الأمم الديرية المتحدة” و”دير الزور يا مسند حِمِلنا”، تأكيدًا على دور مدينتهم في الوقوف إلى جانب المنكوبين ومد يد العون لهم في أوقات الشدّة.
وفي عام 2023، عندما عانت مدينة الحسكة من حصار خانق وانقطاعٍ للمياه، انتفض أهل دير الزور وعشائرها مرة أخرى لنجدتها، ضمن مبادرة إنسانية حملت اسم “فزعة عشائر دير الزور لإخوانهم في الحسكة” وفي موقف يجسّد أسمى معاني الكرم والجود العربي الأصيل، أرسلوا 100 صهريج ماء وآلاف من ألواح الثلج لتخفيف معاناة أهل الحسكة، مؤكدين أنهم أهل النخوة والشهامة، الذين لا يترددون في مد يد العون للمحتاج، مهما كانت ظروفهم. وكما عرفهم إخوانهم السورين، كانوا وما زالوا اهل للعطاء والتضحية، يهبّون لإغاثة الملهوف دون انتظار مقابل، إيمانًا بقيم الأخوّة والتكافل.
أهل دير الزور وأبناء المنطقة الشرقية والجزيرة ليسوا بحاجة لمن يجلدهم بالقسوة، بل لمن يفهم معاناتهم ويستوعب حجم المآسي التي مروا بها. هذه الأرض التي كانت يومًا منبع الخير، تحولت بفعل الحروب والإهمال إلى أرض منسية، يعاني أهلها من الجوع رغم أن أرضهم خصبة وغنية، ومن البرد رغم أنهم يعيشون فوق بحيرات من النفط، ومن العطش رغم أن نهر الفرات يجري بينهم. كيف لمدينة تمتلك كل مقومات الحياة أن تعيش كل هذا الموت البطيء؟
لقد أثبتت التجارب أن إسقاط رموز الفساد، مثل إسقاط الأسد، لا يعني بالضرورة القضاء على جذور المشكلة. فالنظام الفاسد، بما يحمله من شبكات مصالح ونفاق مجتمعي، يظل عائقًا رئيسيًا أمام تحقيق أي إصلاح حقيقي. لذا، يجب أن يتجاوز التغيير حدود الهياكل السياسية ليصل إلى القيم والثقافة التي تغذي هذا الفساد.
الطريق طويل وشاق، لكن التغيير يبدأ بمحاولة صادقة من كل فرد يؤمن بأن الإصلاح ممكن.
اخوكم ابن دير / خطاب الدخيل